نتأمل في هذا الكون ونرى كم منظومته بالغة الدِّقة , فلا الشمس
ينبغي لها أن تُدرك القمر , ولا الليل سابق النهار , وكل في فلك
يسبحون . كَون أبدعه الله سبحانه ووضع له نواميسه ونظاماً دقيقاً .
ثم خلقَ الإنسان وعلّمه البيان , وأوعز إليه مسؤولية إعمار الأرض
فجاءتْ العقيدة مُتكاملة شاملة , عبادات ومعاملات .
لقد بيَّن الله سبحانه للإنسان ما له من حقوق وما عليه من واجبات
ونظَّم العلاقات ما بين الأفراد وما بين الفرد والمجتمع , والفرد والدولة
ثم تعدّاها إلى علاقات الدول فيما بينها . ولكن يأبى الإنسان إلا أن يُقيم
مملكته الخاصة ودستوره ونُظُمه وقوانينه , مما أوجدَ الصراعات المحليّة
كصراعات طبقيّة ودينيّة وثورات حزبيّة وعُمّالية وغيرها , وصراعات
دوليّة , مما أحدثَ فوضى عارمة في كوكب الأرض , حتى أن النزاعات
اتخذتْ ستار حق أُريد به باطل أو باطِل أُريد به حق . فقامتْ الحروب
وكان الحصاد دَماراً وسفك دماء وسلباً ونهباً للحقوق وحتى للأراضي .
فتفشّى الفساد في الأرض والظلم والعدوان , وأصبح القوي يأكل حقوق
الضعيف ويفرض حق السيادة والهيمنة , بداية بالأسرة وانتهاءً بالدولة .
وقُمِعَت الحريّات وانتشرت المُعتقلات محلياً ودوْلياً .
لقد ركَّزَ ديننا على الأخلاق حيث أنها أساس نجاحات العلاقات
الإجتماعيّة وحتى الدوليّة . كما وأمرنا إذا حكمنا أن نَحكم بالعدل
ودعا إلى الشورى , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإعطاء كل ذي حق حقه , وألا نعتدي , فإن الله لا يُحب المعتدين .
لقد كثُر السلب والنهب في هذا العصر , وغابَتْ الرحمة , فأصبح
الأخ يأكل مال أخيه ويطمَع بالذي يَملُكه , وقد يؤدي به الأمر إلى
أن يُخطط للتخلّص منه , إما بتَصفيته وإما بإقامة الحَجْر عليه .
فأصبح القانون لعبة مَنْ نام ضميره أو حتى مات .
حتى أن الوالديْن لم يسلما مِنْ عقوق الأبناء وحتى الحجْر عليهم
وإدخالهم دور العجزة للتملُّص مِنْ واجباتهم اتجاههما , ضاربين
بعرض الحائط ما أمرنا به ديننا الحنيف وسُنة نبيِّنا مِنْ برٍّ بالوالدين
وصِلَة للرَّحم .
حتى أن الأخ أصبح يعيش بغربة طواعيَّةً عن أخيه أو أخته , فلا يرون
بعضهم إلا في المناسبات , فينشأ أبناء العموم أغراباً عن بعضهم , وخاصة
وأن الكثيرين ركبوا قطار الاغتراب وفارقوا الأهل والوطن , وأخذتهم
دوّامة الحياة , وطوتهم الرأسمالية تحت جناحيها , فأعماهم جمع المال عن
تقوية العلاقات الأسرية والعائلية , فأصبح لسان حال الأغلبية العظمى يقول :
أنا ومن ورائي الطوفان , حتى أن هناك من اعتنق المبدأ القائل : إنَّ ما أملُكه
هو لي ,حتى ما تَملكه أنت هو لي أيضاً .
وهكذا غزانا التفكك الأسري بسبب بعدنا عن تعاليم ديننا وغياب تقوى الله
عن القلوب , فغزاها المرض , وأُحكمتْ بالأقفال أبوابها , فماتتْ الرحمة
فأصبح الكبير لا يرحم الصغير ولا حتى يكفل له مساحة من الحرية
والصغير أصبح لا يحترم الكبير , واختلتْ نواميس الأرض حين ابتعدنا
عن تطبيق القانون الإلهي فيها , فأصبحت الأرض كوكب صراعات
ونزاعات إقليمية ودولية , فغاب الأمن والأمان , في حين أخذ الغرب
يُطبق نُظُم ديننا الإجتماعية والضوابط الإجتماعية في إقامة نظامهم
الإجتماعي الذي يكفل للفرد الحياة الكريمة والمساواة , ألا وهو نظام
التكافل الإجتماعي . فأوجدوا مؤسسات التأمين الوطني والتأمين الصحي
حتى شمل التأمين كافة مرافق الحياة , لينعم الفرد بالرفاهية والحرية
التي مِن شأنها أن تدفعهم للعمل والعلم والبناء والتفاعل الإيجابي مع
مجتمعاتهم وحاجاته , ورفع راية الوطن , فتتأصل رابطة الإنتماء
ما بين الوطن والمواطن وتتعمق , الأمر الذي يدعو بالفرد لأن
يُضحي بالغالي والنفيس من أجل هذا الوطن الذي وهبه الحرية
والمساواة والحياة الكريمة .
وبعد .. أما آن الأوان أن نتقي الله ونُصلِح أنفسنا , وننهج نهْجَ تعاليم
ديننا القويم,حتى نستطيع أن ننقذ ما يتسنى لنا إنقاذه , ونُعلي لواء
الأخلاق و العلم و العمل ؟
فإن الأخلاق هي دعّامة بقاء الحضارات , وغيابها من شأنه
أن يُسرع في انهيار تلك الحضارات .
أما كفانا ما نحن فيه مِنْ تشرذُم وضعف ونزاعات وجهل
وتخلُّف ؟ فإنّ بُعدنا عن تعاليم ديننا وسنة نبيّنا هو
قمة التخلُّف .
فما أحوجنا إلى الوحدة والتكامُل بين كافة الأقطار , وإقامة
سوق عربيّة مشتركة لنُحيي إقتصادنا , فأراضينا غنيّة إن
أحسَنّا استغلال ثرواتنا .
فبالعلم والإيمان والإقتصاد القوي نُعلي مِنْ شأننا , وتكون
لنا صناعاتنا ، فنأكل مما نزرَع ونَلبس مما نَصنَع .
ما أحوجنا إلى أن نكون كالجسد الواحد , إذا اشتكى منه عضو
تداعى له باقي الجسد بالحمى والسهر .